إن تفاعل الإنسان العربي مع الليالي الصحراوية يختلف عن تعاطي الأمم الإنسانية الأخرى مع لياليهم مهما كانت شاعرية، وكأن الليل له مكانة خاصة في ثقافتنا العربية لم ينلها عند ثقافات أخرى كثيرة.
ألم تتساءل عن سر انتشار قصص مستوحاة من الثقافة العربية كعلاء الدين وعلي بابا وغيرها؟ يخيل لي أن حيوية الليل العربي وحوادثه هي من أبرز العوامل المشتركة بين جميع تلك القصص. وكأنها اعتراف ضمني من الشعوب الأخرى باختلاف ليالينا، والتي كأنها حياة قائمة بنفسها بصرف النظر عن ساعات النهار المليئة بالكد والنصب. ففيها تحدث السرقة، وتبادل الولاءات والمؤامرات، والتقاء المحبين خلسة بعيداً عن العيون الحاسدة. فيها تفيض القلوب بمخزونها، وتصبح الأماني المترددة في ساعات النهار صريحةً بعد حلول الظلام. كأن الأمور العظام كلها -في ثقافتنا العربية- تدبر بليل، وليس نقض صحيفة حصار بني هاشم وحسب!
حتى الكتاب الشهير (ألف ليلة وليلة) وهو ما لم أتأكد من نسبته العربية بعد -ولا ضير من الاستشهاد- قد ترجم إلى الألسنة المختلفة بعنوان يوحي بتفرد مفهوم الليل وامتيازه عند العرب، إنه: ليالي العرب (Arab Nights).
ولكن لماذا نال الليل هذه المكانة عند العرب؟ إنها نتيجة حتمية لمركبة البيئة الصحراوية والاستعداد الإنساني للتأمل. إن صفاء السماء ليلاً للعربي الأول، واتساع الصحراء الجرداء، قد ربتا هذا الإنسان البدوي على التأمل والتعاطي والتطلع نحو البعيد، وما أبعد من القمر والنجوم!
يقول البشير الإبراهيمي في إحدى رسائله واصفاً ذلك: وليس لأمة من الأمم ما للعرب في وصف النجوم حتى قربتها تشبيهاتهم إلى الإدراك البشري، واعتبر ما قالوه في سهيل والجوزاء والسماكين الأعزل والرامح والثريا والخضيب والدبران والنسرين الواقع والطائر على كثرة النجوم وكثرة ما قالوه فيها، وإذا كانت النجوم لا تحصى عدًا، فقل ذلك فيما قالته العرب فيها… وانظر أوصافهم البديعة لظلمة الليل وروعته وأثرها في نفوسهم وقارن ذلك بوصفهم للنجوم ينكشف لك بعض السر من تلك النفوس وارتباطها بكونها وامتزاجها به، ولا أبعد إذا قلت إنه ليس للأمم مجتمعة ما للعرب في هذا الباب.
وحتى أعمدة النهضة الأدبية لاحظوا ذلك، وأعطوا لليل قدره، وكثير منهم كان يكتب في الليل فقط ملتجئاً لأحد المقاهي بعد كدح النهار. يقول العقاد: “إننا نكبُر بالليل جداً يا صاح. إن الليل هو عالم النفس، وأما النهار فهو عالم العيون والأسماع والأبدان .. إننا بالنهار جزء صغير من العالم الواسع الكبير، ولكن العالم الواسع الكبير جزء من مدركاتنا حين ننظر إليه بالليل”
قد يقول أحدهم بأن كل الأمم الإنسانية تجل الليل، وهذا ما أتفق معه بالطبع، ولكنني أزيد عليه بأن العرب ليلهم أطول من غيرهم وأكثر إثارة للوله والدهشة والتساؤل! وهذا التفرد في التعاطي مع الليل ليس بطارئٍ على العرب، كلا بالطبع. فهذا امرؤ القيس يقول في ليلة من لياليه المحفوظة:
ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُوْلَــهُ *
عَــلَـيَّ بِـأَنْـوَاعِ الـهُــمُــوْمِ لِــيَــبْــتَــلِـي
فَــقُــلْــتُ لَـهُ لَـمَّـا تَـمَــطَّــى بِـصُــلْــبِـهِ *
وأَرْدَفَ أَعْــجَــازاً وَنَـــاءَ بِــكَــلْـــكَــلِ
ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْــلُ ألاَ انْـجَـلِــي *
بِـصُـبْـحٍ، وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ
فَــيَــا لَــكَ مَــنْ لَــيْــلٍ كَــأنَّ نُــجُــومَــهُ *
بــكــل مُــغــار الـفــتـل شُــدّت بـيـذبل
كَـأَنَّ الـثُـرَيّــا عُـلِّـقَــت فـي مَـصـامِــهـا *
بِــأَمْــرَاسِ كَــتَّـانٍ إِلَــى صُــمِّ جَــنْــدَل ِ
وتأمل كيف شبه الليل على المهموم بالجمل، وهو أعز ما ملكت العرب، وأثقله على الأرض.
ولم يترك العرب عنصراً مهملاً من فسيفساء الليل -وهو ما يندر عند أمة غيرهم- إلا واستخدموه في أغراضهم وأوصافهم، فمدحوا الثريا وطلعة القمر وأنسوا واستبشروا ببزوغ سهيل عليهم ولو عند الموت!
أقول لأصحابي: ارفعوني فإنني
يقـرّ لعينـي أن سُهيـلٌ بـدا ليـا (مالك ابن الريب)
وهابوا سكون الليل وظلامه وما يجدونه فيه من شدة الوجد والفقد. حتى أنهم تجاوزوا مديح المعشوق وتشبيهه بالقمر وهو ما يحسنه ويستحسنه كل الناس، فاستخدموا القمر استخدامات تتعجب كيف فطنوا لها. فهذت أبو فراس الحمداني يهدد قومه بأن غيابه عنهم سيحدث فيهم من العجز وقلة الحيلة ما يحدثه غياب القمر من إحساس بالنقص في الليالي غير المقمرة:
سَيَذْكُرُنـي قـومـي إذا جَــدَّ جِـدُّهُـمْ
وفــي اللّيـلـةِ الظَّلْـمـاءِ يُفْتَـقَـدُ الـبَـدْرُ
وذكر الليل في المنثور والمنظوم كثير في الأدب العربي، ولم أرد هنا إلا الإشارة والتدليل على حضوره القوي في الثقافة العربية.
ولا أدل على شدة تأثر العرب الوجداني بالليل ولا أوصف لذلك التأثر من القرآن الكريم. فأكثر مخلوق أقسم الله به في كتابه هو الليل بمختلف تصاريفه الزمانية، وفي هذا دلالة كافية على مكانته عند المخاطبين الأوائل. فأقسم سبحانه بالشفق والليل ووسقه وغشيانه وسجيانه وسريانه وعسعسته وإدباره. والنجم وهوانه ومواقعه في السماء، والطارق الثاقب، والقمر، وتليانه للشمس.
فاحمل نفسك الثقيلة إلى الصحراء، واستلق تحت سماء الليل المهيب، وتطلع إلى النجوم، تجد روحك خفيفة تضطرب تارة وتسكن تارة.
١ صفر ١٤٤١
يا سلام على هالكلام الطيب الجميل ..