أحاول هنا تتبع معنى خفي، دقيق بعض الشيء، أجده في النعمة وليدة الأزمات والمحن والمصائب. وليدة خيبة أمل كبيرة نتعرض لها في حياتنا. نعمة هي كجمال زهرة نرجس بيضاء نشأت من بصلة كريهةٍ رائحتها في الفم، كثيرةٍ دموع من ينظر إليها ويقترب منها. أو هي كحلاوة عافية ونشاط يدب في البدن بعد مرارة دواء يتكلف المرء تعاطيه.
هذه النعمة تأتي في صورة كشف من الله، تجلي، إو إلهام ذاتي. عندما نصر على الحصول على شيء ثم نحرم منه مع يقيننا بأننا نستحقه، أو عندما نصاب بخيبة أمل كبيرة للبون الشاسع بين المأمول والواقع. هناك في تلك اللحظة، يتضح لنا كل شيء، تتضح لنا غايتنا من كل ذلك. نحزن لأن صوتنا ليس مسموعاً أو لعدم وجود أثرٍ لنا على هذه الأرض، نحزن لأننا لن نحصل على المال الكثير الذي سيمنحنا مكانةً اجتماعية مرموقة، نحزن لأننا لن نحصل على دراسة أو وظيفة نظن بأننا نستحقها وبها فقط سنتزوج الأنثى التي نحب، نحزن لأن حرباً وقعت في مكان ما وكيف شتت هذا العرب عن محاربة تخلفهم ومعالجة ما ابتلوا به من تنازع على التوافه.
هذا الحزن مؤلم، ولكن به -وبه فقط- نستيقن حقيقة تلك الأشياء، رغباتنا وآمالنا وأهدافنا. به نستيقن حقيقة ما نسعى من أجله في حياتنا القصيرة.
هذا الرفض، أو عدم توافق ما نريد مع ما يحصل واقعاً في حياتنا، هو خيبة أمل كبيرة تعلمنا ماهية غايتنا ومدى صدقنا في السعي وراءها.
تواصلت مع دار للنشر حرصاً على نشر أحد أعمالي الذي شغلني لأكثر من سنة في معرض الكتاب بالرياض، لم أتوقع أن أرفض بلا سبب. ومع أنني وجدت دوراً أخرى لأتواصل معها، إلا أنني كنت متيقناً من أن الفرصة قد ضاعت. ولكنني لم أفكر للحظة بالتخلي عن الكتابة من أجل هذه الخيبة، بدا لي بأنني ولدت لأكتب وأتنفس بالكتابة ولو لم توافقني دور النشر تلك على ذلك. كل ما في الأمر أن الناس سينتظرون لوقت أطول حتى يروني من جديد على رفوف المكتبات. وهذه -وا أسفاه- من خيبات الأمل.
هل ذكرت قصة زهرة النرجس المولودة من البصل؟ هل أحاول أن أبدو متفائلاً أتلمس النعمة وراء المصائب التي نتعرض لها؟
نعم، أقولها بأسف، فمعظم أنواع البصل لا ينبت زهور النرجس، وليست كل تلك الأدوية الرهيبة تجلب لنا العافية، وأقل الحروب هي تلك التي تجلب للبشرية الرفاهية والاستقرار. كما أن أكثر المصائب لا نرى فيها فائدة أو جدوى أو نعمة إلهية. مهما حاولنا.
وتبقى خيبات الأمل مريرة في ألسنتنا، ثقيلةٌ وطأتها على قلوبنا الصغيرة، ومن الله نطلب بحبوحة الرضا ورغد التسليم.
والـدهـرُ يـعـكـسُ آمـالـي ويُقنعني
مـن الغـنـيـمةِ بـعـدَ الـكـدِّ بالقَـفلِ
فـإن عـلاني من دونـي فـلا عَـجـبٌ
لي أسوةٌ بانحطاطِ الشمسِ عن زُحلِ
وأرجو أن أكون كما قال محمود شاكر في جمهرة مقالاته: “وقد تنزل بالرجل المصيبة فينفتر لها ويتبلد عليها، ويستنيم في بعض أحزانها ولكنه لا يلبث يشعر أن في دمه أصواتاً تتداعى فيه كما يتداعى الجند إذا تفرق على ضربة عدوه في الميدان، يجتمع المتفرق ويتألف الشاذ وتتضام القوى، ويعود الأمر على أشده كأحصن ما كان”
١٧ جمادى الثاني ١٤٤١ هـ