ـــــــــــــ
هذه ورقة مثالية في موضوعها كُتبت ليتم تعميمها على قائدي الدواب الحديدية. مُهيأةٌ لتكون بذرةَ مقررٍ جامعي بعنوان: أخلاقيات القيادة في الزحام. أو مقدمة لكتاب استهلاكي سريع الانتشار ينتظره الكثيرون بعنوان: كيف تقود سيارتك عبر الزحمة بنجاح؟ وأرجو ملاحظة تعمدي ذكر النجاح وتجاهل لفظة الأمان، لأن المهم هو مواصلة القيادة حتى الوجهة المحددة، وقد يستحيل مع ذلك ضمان الأمان التام كما سيتأكد لك ذلك بعد قليل عزيزي القارئ. وقد تستدعي بعض الظروف إهمال الأمان بتفصيل سيذكر في موضعه فانتظره. كما أرجو ملاحظة اقتصار هذه الورقة على أوصاف شهود عيان في مدينة الرياض الصحراوية الماجدة، مع جواز سحب وتعميم إرشادات هذا الدليل على مدن وأوطان أخرى تمتاز بالزحام.
تعريفات وتنبيهات واصطلاحات هذه الرسالة:
وقت الدوام (أو الدوام اختصاراً): ساعات من النهار معدودة في الغالب، يبيعها المرء لربيب عمله كدحاً، بأجر معلومٍ حلولهُ حسب الأبراج الشمسية. وهو الرق يوم أن مُنع الناس الرق. عدا أنك تعود ليلاً لتنام في غرفة وسرير تدعي امتلاكهما.
السيارة: حصانٌ سريع العدو لا روح له، يعلوه هودج كالبعير يُجلسُ داخلهُ عصمةً من الشمس والأوضار، جسمه من الحديد وقلبه كالمرجل: يُملأ بسائل متفجر يضيق به المكان فتتحرك السيارة لتنفس عن ذلك.
المرور: فئام من الناس مأمورةٌ بالقيام بدور شرطة السيارات، وضمان انتظامها في مسارات وعمليات محددة؛ ولو كانت خاطئة.
الدائري: طريق مشهور لدى الرياضيين-نسبةً لأهل الرياض- خرج عن غاية تخفيف الزحام التي عبّد من أجلها، ويقوم مقامه كل طريق سريع معبد واسع يشتهر بالكربون والكدر والزحام، وأمارته وقوف سيارات معترضة مشبوهة لإغلاق منافذ الدخول، يزعم الناس أنها من المرور وهو كذلك.
البوري: صوت مزعج تصدره السيارة من جوفها حين يتم إيذاؤها في موضع لا تحب أن تؤذى فيه. ومحققو العربية على أنها كلمة أعجمية ليست بعربية ولا مستعربة، والصحيح عندي -إن شاء الله- أنها لفظة فصيحة تعني البورُ لك. ودليل ذلك أن استخدام الرجال الأوائل لهذه الكلمة يقترن بسباب وشتام وقذف ودعوات بالهلاك والثبور، وهو البوار.
قوقل ماب: برنامج مذهل على الجوالات الذكية، خدم البشرية -التي أخطأت بتشييد حضارة عملاقة لا تقدر على إدارتها لوحدها- بتحليله لجميع الطرق المحتملة للوصول إلى الوجهة المطلوبة واقتراح أسرع الطرق وأقلها زحمة. وقوقل من القوقلة وهي شدة البحث والتقصي مرةً بعد مرة، ومَابْ كلمة آشورية بمعنى الطريق الآمن.
التخييط: تكتيك متهور اخترعه الشباب للمناورة بالسيارة بسرعة في الزحام استغلالاً لكل فرجة يثق الأرعن بأنه قادر على حشر سيارته فيها من غير خفض سرعتها للقدر المتعارف عليه.
ـــــــــــــ
أ- الخروج المبكر وسيلتك الوقائية الوحيدة من الإزعاج والمشاكل والتوتر النفسي والاكتئاب الحاد الذي تثيره فيك الزحمة حين تعلق فيها بسيارتك. حاول جهدك ركوب السيارة قبل طلوع الشمس، فطلوعها أمارة الزحمة، والويلُ لك إن طلعتْ ولم تستوفز من فراشك بعد! ما الذي ستخسره لو أخرت صلاة الفجر إلى آخر وقتها حتى تصل إلى دوامك مبكراً بسلام وطمأنينة؟ هذه مبالغة بالطبع، ولكنها حقيقة عند بعضهم ممن لايستطيع الخشوع في صلاته قلقاً من زحمةٍ لا يمكن التنبؤ بها. وهنا يقترح كاتب هذه الرسالة تخصيص منبه خاص للدوام يصرخ منادياً بالزحمة التي عليك الخلوص لدوامك قبل حلولها على الرياض وتحويلها لشوارع حمراء يحتار فيها قوقل ماب.
ب- الإشارة موضع خطر وإزعاج، فالنوكى (الحمقى) لا يتورعون عن اقتحام الطريق معترضين -من الجانب الأيمن- صفاً طويلاً من الرجال الطيبين الواقفين بسياراتهم في أدب ينتظرون إذن الله للضوء الأخضر أن يضيء. المبكي أن هذا الرجل الأنوك يهجوك بنظرة سافرة وكأن اعتراض الإشارة وتجاوز التقاطع حق من حقوقه مكفول، والبُوري الذي يردُّ به على بُورِّيك يقول ذلك صراحة.
ج- الحوادث هي المصيبة الحقيقية، وكثيراً ما تلامُ الزحمة وتشتم خطأً نيابةً عنها، وبعض أهل هذا الفن لا يفرقون بينهما، وذلك من أفحش الغلط! الحوادث المفاجئة تستدعي زحمةً غير تلك الزحمة العادية التي يتنبأ بها المرء غدوةً ورواحاً وفقَ أوقات خروج طلاب المدارس المجتهدين أو الموظفين الكادحين. الحوادث المفاجئة تبدأ بسبب سخيف كمحاولة أنوك اعتراض إشارة لا يتيح له ضيق الشارع اعتراضها، فيتوقف شخص طيب لم يعتد على النوكى فجأةً ويصطدم به شخص طيب آخر ويمضي الأنوك مسروراً لا أمضى الله له أمراً. وتحدث أحياناً بسبب خوف سائق أعجمي من دفع تكاليف مخالفة مرورية عند رؤيته لكاميرا مراقبة السرعة وقد وضعت في مكانها بخبث، فيكبح جماح سيارته العملاقة بلا أدنى اهتمام بالسيد الطيب في السيارة خلفه، فيكون الحادث المفاجئ وينقلبُ الرجل الطيب عنيفَ التوبيخ شديدَ اللهجة على السائق الأعجمي، ومعه الحق. ويكون الحادث المفاجئ أيضاً بسبب تلك الأجهزة الصغيرة الذكية المذهلة وانشغال قائد السيارات بها، ولا ملامة على ذلك، فإن لمستخدم الجوال حرمةً ليست لغيره. وتكون الحوادث المفاجئة بسبب تخييط -كذا قال أهل هذا الفن- بعض المتهورين في الدائري، وتكونُ بلا سبب في أكثر الأيام، وتكونُ بعد انقلاب شاحنة كبيرة وهنا تنسى ضيقك بالزحمة وتحترم هيبة الموت وتدعو للمساكين بالمغفرة.
د- كيف تعرف بوجود حادث مفاجئ؟ أفردت لهذا السؤال باباً خاصاً لكونه لب هذا الفن، فمعرفة الرجل بوجود حادث تمكنه من تلافي الزحمة، ثم الوصول إلى بيته بنجاح. على أني أمعنت التفكير وأطلته، وفكرت وقدرت، ثم فكرت وقدرت، فلم أهتد لنصيحة يكون فيها جماع هذا الباب ورشاده. وهذا من العبقرية في تسمية الأشياء، فأنى لامرئٍ أن يدري بوجود حادث مفاجئ، على أنني أترك هذا لفراسة قائد المركبة وفطنته، وهو أمرٌ يسير بعد طول الدربة والمعالجة للزحام.
هـ- هل أثرت قيادة النساء على الرجال؟
يذهب كاتب هذه الرسالة مذهباً لم يسبق إليه في شأن النساء، السيدات الماجدات. فيرى أن الرجال يعاملون قيادة النساء للسيارات بتفكير سطحي ولكنه ناجع في واقع الأمر، فهم يحملون قيادة النساء على أنها كقيادة السوّاقين الأعاجم بصرف النظر عن اختلاف الجنس، فتكتيكات القيادة هي عينها لا تختلف، والمشاكل التي تسببها تلك التكتيكات هي هي بعينها أيضاً. بل ربما أصبح الوضع أفضل فقد كانت النساء قديماً يركبن السيارة في الخلف زرافاتٍ أو وحداناً، يوجهن السائق بكلامهن وما أكثر ما يتعارض توجيه إحداهن مع رفيقتها، فيرتبك السائق ويكون الحادث المفاجئ، وذلك أورث بعض السائقين بلاهةً دائمة والله المستعان. فالرجال أكثر راحةً الآن لتخلصهم من تلك المشكلة المضحكة. وعلى التحقيق، إن الرجل مشغولٌ بالزحمة وتلافي الحوادث واعتراض الإشارات الحمراء غافلاً عن مسألة السيدات الماجدات وسياراتهن.
و- خاتمة الرسالة: هذا جهد المقل للدلالةِ على فن كثرَ من لا يفطن له، وقد آثرنا نشرها بنقصها على كتمانها هدايةً لإخواننا وتذكرةً بسبقنا لهذا الفن. على رجاءِ أن نعود في المستقبل فنبسطَ ما أوجزنا ونشرحَ ما استشكلَ على إخواننا ونضيفَ ما لمع في أذهاننا. ولله الحمد على التمام والمنة.
*تنويه: جميع الاجتهادات اللغوية المقررة آنفاً تقتصر صحتها على هذه الرسالة فقط، وينبغي ألا تعدو معانيها المواضع الخاصة المذكورة فيها.
ـــــــــــــ
ملحق: إرشادات نسائية خاصة
1- جميع الرجال طيبون، وبعضهم سيء.
2- ليس عيباً ألا تجيدين تبديل إطار السيارة أو تغيير الزيت أو تشخيص موضع الصوت الغريب حين صدوره، لا تقلقي ولا تخافي. فقائد السيارة كالفارس، لا كالحوذي أو البيطري. ولهذا نذهب لورشة السيارات عند الحاجة، على أن من يذهب للورشة ذاتها كثيراً يعرف بغبائه وسذاجته فيستغل.
3- تظل فكرة السفر بالسيارة مغالاة يا سيدتي، الأفضل أن تكون بعد سنة كاملة من مزاولة القيادة وفق نصائح هذه الرسالة.
4- لبعض الرجال عادة قبيحة برفع صوت الغناء دلالة على الوَجد أو الطرب، ورغبةً في لفت انتباه الجنس الآخر أحياناً. رجاء حار ألا تقتبس النساء مثل تلك العادات أو تطور ما يقوم مقامها.
5- لا داعي للهلع، عند حدوث اصطدام خفيف. هناك إجراءات روتينية تعود الرجال على القيام بها. وبما أنكِ حديثة القيادة فلا شك بأن أوراقك الثبوتية كاملة، ولا داعي للهلع. التفاوض للوصول إلى حل وسط هو أول الإجراءات، وثانيها هو استدعاء القوات الخاصة، نجم.
6- تعقيباً على النقطة السابقة، يرجى عدم استغلال الوضع وجر الرجل لمماحكات جانبية وادعاء الضعف وسلطوية الذكر لكسب التفاوض أو إقناع نجم بروايتك المتوهمة عن الحادث. الشارع ليس تويتر.
7- قد يحدث حادث شنيع، لا إرشادات بهذا الخصوص.
8- عندما تحدث مشكلة سيحاول الرجل المساعدة، أرجو التلطف وتمكينه من فعل ذلك وشكره بعفة وحياء بعدها. أما لو كان قليل الأدب فاحش اللسان، فأتوسل إليك أن تضربي بهذه الإرشادات عرض الحائط، وتستدعي ما حباك الله به من مكر وخديعة للإيقاع بهذا الخبيث، وأنا لك من الشاكرين.
ـــــــــــــ
مصدر الصورة: ksagate.co
٢١ رجب ١٤٤١