..
يتململ خالد كلما جلسا معاً، بل ويصرح للبعض على انفراد ويصف سعد بالموظف الكسول. فكثيراً ما حضر إلى المكتب قبله بساعة وأنهى مهامه المتأخرة. لم يهتم يوماً بالرد على رسائله مهما كانت مستعجلة، إلا بعد مرور ساعات، ويوافق الفريق على اقتراحاته أو يرفضها، فلا يصبح لرأي خالد المتأني أهمية تذكر!
المزعج في الأمر أنه تمكن من الانضمام لقروب “الشلة” بطريقة أو بأخرى. كلهم يعرفون بأن خالد لا يكن له خالص الود منذ الدراسة الابتدائية، مروراً بالمتوسطة والثانوية والجامعية، حتى الوظيفة. استمر سعد يلازمه كظله لا يتركه مهما عبس له أو تهرب منه. خالد لم ولن يسامحه على إفشائه الأبله للأسرار.
قاد خالد الجيب مستقبلاً النفود بثقة أكدتها الخبرة، ركز ناظريه تجاه القمة وهو يدوس برجله محرقاً البنزين بوتيرة متسارعة. هكذا علمه أخوه الأكبر أول مرة، يوم أن كان الأخ الأكبر مسؤولاً عن الأصغر. صعد النفد، وواصل سيره فوق الرمال المنبسطة بتؤدة لا مبالية، أصبح الكل لا يكترث بأحد. لماذا صار أخوه بارداً معه لا يكترث به! وعمداً، تغافل عن التركيز -بخلاف توجيهات الأخ الأكبر- صاعداً هابطاً بالجيب فوق النفود، متجهاً لمكان “الشلة” المعتاد.
بعد وقت طويل من هبوط الليل وصل آخرهم. كعادتهم، لا بد وأن يتأخر أحدهم عن جلسة النفود.
هذه المرة تفاجؤوا بسامي الذي أتى بعد أن هجرهم شهوراً متجاهلاً جميع اتصالاتهم بلا استثناء. التفت خالد نحوه ماداً فنجال القهوة: “تقهو سامي” رحب بابتسامة تناقض عتبه على هذا الجافي الذي أصبح يعامل كالضيف بعد كل تلك السنين.
أحمد الذي عوّد الشباب على شاهيّه، انشغل يغلي الماء ويضع السكر بسخاء، قبل أن يرمي حفنة أوراق الشاي الذي لقب بها “خدير”. كان يشعر أثناء ذلك بالتوتر يعلو الجلسة على غير عادة، الكل قلق بشأن خالد وسامي وما قد يسفر عنه هذا اللقاء. فهذا يعاتب باهتمامه الزائد، وهذا يتجاهل بفجاجة!
“حيّ الله سامي..” رحب خالد وهو يقرب حفنة من التمر، لم ينتظر رداً: “قل لي أنك ما نسيت رائحة السمر.. أو الغضا إذا التهبت ناره قبل الفجر”
“نسيتها كلها”
سكت خالد. ينتظر شيئاً.
استدرك سامي: “ما عدا الأرطى إذا اشتعلت وقت المطر”
لا أحد من الشلة ينوي قطع المحادثة. استمعوا بصبر وترقب، يتظاهر بعضهم بالانشغال. انقطاع الإرسال وسط النفود يفضح أحمد الذي أمسك بجواله وحدق في شاشته، أدباً.
“لم يمنعك أحد منها. الوسم لحقته أيام خير وأنت تعرف محلّنا” ثم تنهد: “اختفيت عنا يا رجل”
“ظروف” قال سامي ورفع فنجاله محتسياً القهوة رشفةً واحدة، لم تفارق عيناه خالد.
ترك أحمد الجوال ومد يده ليأخذ الفنجال بنباهة من يد سامي الذي تخلى عنه له.
ظروف! كلنا عندنا ظروف. ولا نكتمها عن بعض أو نسكت ونغيب. كلنا عندنا ظروف لكن نرد على الاتصالات. نستشير ونفضفض وننصح بعضنا. عشرة عمر بيننا وخوّة!
كسر خالد الصمت بصوت هادئ: “كلنا عندنا ظروف”
حس سامي بالاحتجاج، سكت.
“بس عمرنا ما خبينا على بعض. ما عاد بيننا ثقة؟”
“لا تقولها يا خالد. تدري أن ما لي حيلة. الثقة موجودة، والاحترام، والمحبة.. لك وللجميع”
أكد سامي على “لك” بشكل باهت لم يلاحظه إلا خالد. يعرف مكانته عند خالد ومكانة خالد عنده. الشلة اجتمعت حولهما، وعلاقتهما أمتن من البقية.
“ما لها أثر يا سامي، ما لها أثر!” أجل. لم ينسى خالد أن علاقتهما كانت الأقدم والأمتن. كانت.
ولكن بأي حق يساوي بينه وبين البقية! بأي حق يغيب عنه هذه المدة الطويلة جداً، ويساوي بينه وبين الآخرين فلا يجيب اتصالاته ولا يرد على رسائله. ويعطيه بلوك! كثير ما فعلته يا سامي. حاولت أعتذر لك، أعطيك فرصة تبرر موقفك وتشرح ظروفك، تتأسف. تأتي لنا فجأة ولا تلمح بأنك ستنفرد بي وتخبرني بكل شيء. ثقيل الحمل الذي وضعته فوق كتفي. كريم أنا، لا أقبل إهانة قاسية من أخ غالي وعزيز.
قاطع الجلوس حوارهما المشحون بالعتب. لم يكترث أي منهما بمتابعة الحديث. تكاشفا بما فيه الكفاية.
استبدل فهد البدلة بالثوب، أو بالأحرى خلع الثوب وامتطى ظهر (فضة) بعد طول غياب. لولا تحدي خالد أمام “الربع” وإهانته المبتذلة لما وافق على خوض سباق. أرخى لفضة عنانها وانطلق محاذياً خصمه، خائفاً عليها ومنها همس: “لا تسوين سوات المها يا فضة” وبانزعاج، استقبل ذكرى السباق الأخير مع سامي وما حدث له على ظهر المها. ومع أن خالد وأحمد ناجياه غير مرة في السابق: “المشاحنة التي صارت على خلفية سباقه الأخير مع سامي ليست سبب هجره للشلة” إلا أنه كره السباقات، مع شباب الشلة بالذات، فأكثر الخلافات ترتبط وتلك السباقات بسبب أو بآخر. والآن عاد سامي ولكن خالد لم يعد يكلمه، فهجرهم مرة أخرى.
”سامي توفى بحادث سيارة” أربع كلمات حملتها رسالة النعي لتجر بعدها تعاطف وترحم وحوقلات في قروب الشلة. خالد لم يكتب شيء، ولا يريد الكتابة، غير قادر على استيعاب حقيقة موت صديق خانه. أغلق الآيفون ورماه بعيداً بقهر، يشعر بحزن كبير، ولكن ليس على موت سامي.
٤ جمادى الثاني ١٤٤٢