مشعان الشملان، اسم سهل الحفظ على ذلك الفني الجديد الذي لم تعتد يده الصغيرة على ضرب صفائح الحديد حتى الآن. إنه اسم وحشي من منظومة ثقافية مغايرة كما يوحي بذلك الصوت الخشن للكلمة وتلك الصورة العنترية للرجل.
سأل الفني بسذاجة زميله الذي تولى تدريبه لأسابيع بعد لقائهما الأول:
-مشعان، هل أنت بدوي؟
-في عينيك، أنا بدوي. ولكنني لا أعتبر نفسي كذلك.
-أظن أن البدو سيختفون من الوجود، أنت تعلم، هذه المجتمعات المدنية المتحضرة تقتلع كل ما يعترضها.
ندم الفني على جملته الأخيرة، لن يفهمها مشعان، أو أنه سينظر له باستحقار على تحذلقه في العبارة. أجابه مشعان بملامح جادة:
-البدو لا يموتون. نحن الصحراء.
بدا الفني الجديد مختلفاً منذ اللحظة التي دخل فيها المصنع أول مرة. نظر الفنيّون القدامى إليه طويلاً كأنهم يسبرون أغواره، جلده الناعم ووجهه المتشرب بالعافية ورغد العيش لا يروق لهم. بعد أيام من حضوره الأول، وكّل مدير المصنع مشعان بتدريب الفني فامتثل الأخير بلا مبالاة أو تثاقل.
الإنسان البدوي يبدو أكثر ثقة بنفسه، حديثه لا يعتوره تردد أو تأتأة. خلافاً عن الإنسان المتمدن الذي تعرّض لأفكار كثيرة جعلته أكثر شكاً وتردداً بدل أن يتعرض ويتفاعل مع الطبيعة. هكذا كان الفني القادم من المدينة إلى المصنع يفكر وهو يتلقى تعليمات موجزة ودقيقة من مشعان:
-ليس كذلك، المسمار عامودي والعزم بأقل مقدار. ثم وزّع الشحم على جميع المناطق التي تتحرك. الكثير منه حول الترس.
-بهذا الشكل؟
-ليس كافياً. دعني أريك.
كان الصوت المزعج لضرب صفائح الحديد بالمطرقة والشاكوش وخرقها بالمثقاب هو السائد في المصنع. كثيراً ما تكون هناك فترات من الصمت المطبق في بداية ساعات العمل ونهايتها وفي وقت الاستراحة، وأحياناً في دقائق انتظار وصول القطع الناقصة من المخزن. ولكن الفني وجد المصنع ساحراً وشاعرياً في اللحظات التي يتغنى فيها الفنيون أو بعضهم بألحان الحب والحنين للشتاء والخروج إلى البر أو ضيقة البال وانشراح الصدر.كانت أصوات البدو جميلة -هكذا كان الفني الجديد يسمي زملاؤه في نفسه، وإن لم يكونوا بدوًا كما قد تشاهدهم في الأفلام أو تقرأ عنهم في الكتب- ليست عذبة أو رقيقة، إنها خشنة كما يجب لرجل أن يكون، ومطربة كما ينبغي لعاشق أو أرض تهيّأت لمطر، وحزينة كمالك الحزين. وهي في كل وقت أصوات راضية بحكم الله.
حتى التغزل بالأنثى -وهو ما يكاد يتفق عليه جميع العمال الذين عايشهم الفني في حياته- له طابع مختلف هنا. هذه الطبقة المسكينة لذتها المنشودة ليست معقدة أو بعيدة الغور كما تلاحظ ذلك في موظفي المدينة البؤساء. بل هي لذة صريحة تعبر عن نفسها بأساليب فطرية. فنّيوا المدينة يعرفون السادية والمازوخية وقد يصرحون بها في نكاتهم، مما يغضب الفني الذي يتهمونه بالتحفظ الزائد. إنه لم يتغير أبداً عند هؤلاء البدو، ولكنه ارتاح للطبيعة الفطرية وإشارات العيون والأيدي التي لا تستطيع الصبر على العزوبة. إنهم -الفنيون- يتحدثون عن الأمر ذاته في كل مكان، ولكن البدو منهم يحتفظون بعذرية التعبير والأسلوب. توقف الفني عن الاستياء من ذكر تلك المواضيع منذ سنوات، وإن بقي متحفظاً عن الخوض فيها، ولكن ما الذي بوسع الفنيين الشباب فعله مع هذا العالم الذي يضع العوائق جاهداً أمام الزواج، ليس الشراب خياراً متاحاً ولا الزنا، فحش الكلام وسيلة احتجاج العزّاب المساكين.
كان مشعان وزملاؤه يصنعون القهوة العربية في الوقت ذاته كل يوم، لا يتنازل صانع القهوة عن سكبها في الفنجال وتقديمها للفني بنفسه دوماً. بخلاف فنيوا المدينة الذين يتبادلون الأدوار في صنع القهوة ولا يمانع أحدهم من أن يسكب كل شخص القهوة بنفسه، لقد كان واحداً منهم، ولكنه ما يزال ضيفاً عند زملائه البدو وإن مضت أسابيع على عمله معهم. مشعان لا يتورع عن شتم زميله الذي أخطأ أمام الجميع، فنيوا المدينة ينتبهون لعباراتهم ولا يجاهرون بشتيمة، بل يبلغ أحدهم المدير بالمشكلة وقد يزيد بعض الشيء إن إحتاج الأمر إلى وشاية، ولا أحد يعرف من يكون ذلك الشخص. كان الفني قادراً على مقارنة الكثير من الأمور، ولكنه يكتفي بتأمل مقدار التوتر بين فنيي المدينة، والفطرية بين الفنيين البدو.
كثيراً ما تغنى مشعان، والطريف أنه كان أصلعاً على خلاف معنى اسمه:
ضميني ضميني بالشمال وباليمين **
ضميني ضمة صغير(ن) يحبونه هَلهْ
ضميني لاجيت لك بالضحى لكن بلين **
ويش عذرك في صغير(ن) خذِيته من هله
ماحلا الفنجال من كف صافيةَ الجبين **
ساعة(ن) والناس كلن على راس عمَلهْ
وانتشي من ريحةَ الهيلِ من تيك اليمين **
تسلم يمين سقَتني الهنا دون الولهْ
كل ما شفت القمر قلت يالله لي تعين **
جل رب صـوّره بالـحلا ثـم كـملـهْ
قـالت الساعة تـروَح علـينا كـل حـين **
واللـيالي في هـوانا تـجي مستعجلةْ
من تناسى صاحبه ماذكر شوق وحنين **
والله ما يستاهل الحب ما يستاهله
بـاعـني بـاعـني وابـتدا طـبعه يـشيـن **
والزمن الأول تحول وأظنه حولهْ
٢٠ ربيع الأول ١٤٤١
صاحب الصورة: Stuart Broadley