رسالة إلى صديق أحبه

اا

تعلم حبي، فلماذا أكتب لك؟ وتعرف من عيني ولساني صدقي، فلماذا أقسم لك؟ لست أدري ولا أسعى لأن أدري. وهذا سر عبوسي أمام من يراجعني فيك، وفي حبك وصداقتك، وفي ابتهاجي بك ومنك ومعك، يقولون ما معنى هذا؟ ولا معنى له عندهم. لم يجرب واحدهم أن يحب صديقه حباً كحبي صافياً عذباً نميراً زلالاً يتهادى نحوك طرباً واهتماماً وإخلاصا.
ينقمون أن أقسمت على حبك، إجلالاً لله من تافه القول بزعمهم، فأُقسمُ ثانيةً، وأسخرُ منهم كيف أصبح حبي لك تافهاً وإني لأفديك وأفدي من يقصرُ عن فداكَ!
وإني لآسفُ أن صدّرتُ حديث حبك بذكر غيرك، ولكنّ في الصدرِ (حَزَّازٌ من الوَجْدِ حَامِزُ).
وإني لأكتبُ فيك وفي حب صداقتك ما لو كتبُ شطره غزلاً في عذراء لا تبرح خدرها لأسكرها الوجد. وليس الحب حصراً للكحيلات الكواعب. بل للأهل منه نصيب، وللديار، والأصدقاء. ولك وحدك فديتكُ نصيبٌ أخصك به وأبذله لك.
أحب ضحكك حين تأنس، وجدّك حين تعزم أمرك. أحب ابتسامتك حين نلتقي، ومصافحتك حين نودع بعضنا. أحب منك استماعك لي، وحديثك إلي. أحب منك إزعاجك لي وإزعاجي لك، توبيخك لي وتوبيخي لك. أحب منك رضاك بعد غضبك، وبسمتك بعد عتبك، و فرحتك بعد حَزَنك.
تقول لي عند اجتماعنا على قهوةٍ أو طعام مالكَ بردت قهوتك ولم ينقص عشاؤك، وأداري جوابك بملاطفتك، ولو ألزمتني لأخبرتك أن القهوةَ باردةٌ دوماً لسخونة لقائك، واللقمة شغلٌ عنك أولى منه استماعي إليك ومناجاتي لك.
أنت أسمى من الصديق الذي وصفه البارودي في شعره:
إنْ رَابَكَ الدَّهْرُ لَمْ تَـفْـشَلْ عَزَائِـمُهُ
أو نَـابَـكَ الـهـمّ لَـم تَـفـتُـرْ وسـائِـلُهُ
يـرعَـاكَ في حـالتـي بُـعدٍ ومقـربةٍ
وَلا تُــغِـبُّـكَ مِـن خـيـرٍ فـواضـلُـهُ
فكيف بالله عليك تريدني أن أكتم حبي لك ودعائي بطول بقائك ودوام عافيتك ونجاح أمرك وسعادة مصيرك!
وأنت وأنا في غنىً عن هذه الرسالة، ولكني طمعتُ في دوام ودّك وأطعت النابغة الذبياني إذ يقول: (واستبقِ ودَّكَ للصديقِ) وعاندت ابن الرومي الذي قال:
عدوك من صديقك مسـتـفاد
فلا تستكثرنَّ من الصِّحـابِ
وكم أعذره في قوله فلم يشهدك من بين البرية ولم يطلع عليك، حُرِسْتَ! وإلا لأوصى الصحابَ بالاستكثار من الصحاب، لعلهم يظفرون بك أو من يشاكلك كما ظفرتُ بعد طولٍ سعيٍ أنا.
وأنت -رعاك الله وحماك- تعرفني على مذهب المتنبي:
أُصَادِقُ نَفسَ المرْءِ من قبلِ جسمِهِ
وَأعْـرِفُـهَـا فـي فِــعْــلِـهِ وَالـتّـكَـلّــمِ
وهو الذي قال رحمه الله: (شرّ البلاد مكانٌ لا صديقَ به) والآن أقولُ إن شر الأوقات وقتٌ لا صديق به، عندها يتلجلج القلب ويطول الليل ويضيق الصدر.
وإني لأعدك في نفسي بمنزلة الأخ، لك ما له وعليك ما عليه. فأنشرح لذكرى طفولتك وأهتم لمستقبلك وسائر شأنِك، وويلي وقت مرضك وحزنك، فلست أرتاح وأعلمُ أن هذه حالك. وأهلك هم أهلي وأبوك هو أبي. وأقسم بمن هو قادر على جمعي وإياك في جنته ومستقر رحمته بأني الآنَ أشعر بأبوةٍ لعيالك وحنانٍ لهم فأخبرني ألست بذلك أخاً لي، بل أقرب من ذلك وألصق!
لا شيء في الدنيا أحب لناظري
من منظر الخـلانِ والأصـحـابِ
قالها الخوري وباح قديماً بما في خلدي. لا شيء، لا شيء البتة، أحب إلي من ملء عيني بمنظرك! هل تراني أبالغ وأفرط في حبي، أو تظن أنك أكثر تواضعاً من قولي فيك ووصفي لك؟ دعني أراك. الآن. وأنظر إلى عيني أو اكشف عن قلبي تجد الجواب، ودوماً ستجده.
“سأل صديقٌ الجاحظ: هل تذكرني؟
فرد: وكيفَ أنساكَ وأنا إن رأيتُ حُسناً ذكرتُك مُشبِّهًا، وإن رأيتُ قبيحاً ذكرتكَ به مُبايناً.” وإني لا آبهُ إن كنتَ ناقصاً أو كاملاً في نفسك، بل يكفيني -وأرجو أن يكفيك- أن صورتكَ المنطبعة في قلبي كاملة، وأن منظرك المنعكس على عيني بديعٌ لا أبتغي وراءه شيئاً. نقلَ التوحيدي أن النَّفسُ بالصَّدِيق آنس منها بالعشيق!

وما أكثر ما كتبوا في الصديق، قرأنا بعضه وتركنا معظمه، وأجزمُ أنهم كتبوا وقالوا كثيراً لا يكفي، أو قليلاً لا يغني، أو ركيكاً لا يشفي. وهاقد قد غرفتُ لك من بحرٍ جعله التفكّرُ فيك والتأملُ عذباً، فلكَ بعد ربك الحمدُ إن قبلته، ولك العتبى إن طمعتَ في زيادةٍ عجز عنها لساني.
ولي في رسولي أسوة، كان يُسألُ عن أحب الناس فيجيب ويصرّح. عليه أزكى صلاةٍ وسلام.
ولم أكتب كل هذا حتى أقول ما قاله الأول -سامحه الله- حين بغى في صداقته:
“عرِّفني وقتَك أوافِقكَ خاليًا، لا تُزاحمني الألسُنُ فيهِ على محادَثِتكَ، ولا الأعينُ عن النَّظر إليك لأقضِي حقَّ المودَّة، وآخُذُ بثأر الشوق.”

ولكني أكتب لك لأقول كلمةً واحدة تعرفها ويسعدني قولها: أحبك.

اا

٢٣ شعبان ١٤٤٢

الصورة: إبراهيم سرحان @sarhaniy