ا
الكاتب حشرة. آسف على صفاقتي، ولكني موقن بأن كل كاتب لا يعدو أن يكون حشرة صغيرة في هذا العالم الكبير، حشرة تصدر طنيناً مزعجاً أحياناً، وجميلة كفراشة تسر الناظرين أحياناً، وتتغذى على ضحيتها وتؤذيها كباعضوة أو تقرصها كنملة أحياناً، وتنتج عسلاً يشفي الناس ويطعمهم كنحلة أحياناً، وتمنحهم حريراً يلبسونه كدودة أحياناً، ويسلطها الله على المتجبرين من خلقه كالنمرود أحياناً. حشرة لطيفة أو قبيحة، يسهل سحقها في أي وقت، ولكن موتها بعد أداء مهمتها هو أعظم ما قد تفعله في حياتها القصيرة.
لو خيّرتك بين ثوبين تلبسهما -أخضر وأزرق- فلن تمضي نصف دقيقة إلا وقد لبست أحدهما، ولو خيّرتك بين عشرة ألوان لاستغرقت وقتاً أطول وربما جربت ارتداء أكثر من ثوب قبل الجزم بقرار، ولو زدت عليك هذه العشرة ثياب عشرةً أخرى لبدأت بالانزعاج من كثرتها، ماذا لو جعلناها مئةَ ثوب؟ ألفَ ثوب؟ ثياباً لا عدّ لها؟ ولا يمكنك اختيار غير ثوبٍ واحد. لعلك ستيأس من اختيار أفضل ثوب من بينها. هذه هي مشكلتنا. لانهائية الخيارات وتعددية أشكالنا المستقبلية ومآلاتنا المحتملة.
أظن جميع الحشرات سعيدة، لا أعلم ذلك يقيناً فلست نبي الله سليمان، ولكن لنأخذ النحلة كمثال سعيد لا تتقزز منه الناس عادةً ولا كراهية تجاهه. النحلة ليست سعيدة لكونها تنتج العسل أو تتجول بين الزهور طوال النهار، بل سعادتها لأنها لا تعرف حياة غير حياتها ولا تشك أبداً بأنها تفعل ما ينبغي عليها فعله. ماذا عنك؟ كم مرة شككت بأن الحياة التي تعيشها ليست هي الحياة التي خلقت لها؟ كم مرة شككت بأن قراراً اتخذته في ماضيك أو اتخذه أحدهم نيابةً عنك دفعك للمسير باتجاه لا ترغب به؟ يبدأ الواحد منا حياته تدفعه رغبة مثالية في الدفاع عن المظلومين، فيريد أن يكون محامياً ويسعى للحصول على شهادة القانون، لكنه ما يلبث أن يتعرف على شؤون الصفقات العقارية عبر معارفه من المحامين، فيصبح بعد مدة وسيطاً عقارياً ليكسب بعض المال. وفجأةً تجده من المهتمين بتطوير حلول تقنية لمشاكل العقار الذي احتدّت فيه المنافسة وشح العرض وارتفع الطلب، وقبل أن تحزر خطوته التالية تجده قد أصبح “إنتربونور” وذهب يتحدث بكلمات لا تفهمها ومشاريع “جوينت فنتشر” يزعم تنفيذها في المستقبل القريب ويخطط لها، أو يحاول تعلم لغة برمجية ليصبح خبير “بايثون” ويضع له بصمةً في مكانٍ ما أو يساهم في تقديم تطبيق ناجح للناس. وهكذا تمضي به الحياة، تركله ويركلها، تصارعه ويصارعها. ولا أحد يدري أين ذهب ذاك الذي سيدافع عن المظلومين ومتى فقدناه في الطريق إلى هنا. الفكرة التي تعيشها الآن هي أهم فكرة؛ لأنها حقيقتك الراهنة، وإما أنك تريد استمرارها وتعمل على ذلك، أو تريد تحسينها وتعمل على ذلك. لا بأس أن تتغير، تتبدل، تتجد، أن تعيد مراجعة خياراتك، هذه نعمة الله عليك أيها الإنسان، الوعي أو الإرادة، والقدرة على الاختيار. أنت لستَ بعوضةً لا قَدَرَ لها إلا امتصاص الدماء. بل إنساناً يمكن أن يكون ما يريد أن يكونه. ولكن أرجوك، حين تختار شيئاً تشبث به، ولا تفلته من يدك، توقف عن التحديق في ماضيك أو التطلع لمآلك، توقف عن الالتفات إليهم ماذا يفعلون وماذا يظنون بك. عش كأشرس حشرة تعرفها، وانذر نفسك للفكرة التي تعيشها الآن، وتذكر أن الثوب ثوبك ما دمت مختاراً له، ولو خلعته عنك بعض الوقت.
لدي صديقٌ مخلص في النصيحة استودعته أحلامي، وكلما ماج بي البحر وشط بي البر وبعدت الشقة والمسألة، واستفرغت الوسع، وضاقت بي الحيل، ونسيت من أكون وماذا أريد=أبِقتُ إليه وسألت الاتباع على أن يعلمني مما علّم رشدا. وكان ما كان، وأتيت إليه فرحاً بأني صرت أبيع قلمي، وأهب نصوصاً مجانية أصيد بها العملاء كما صاد الشعراء قبلي كل خليفة. فوبخني، واتهم إخلاصي للكتابة، وأبان عن سوء صنيعي، وأن ما كنت أطلبه غير ذلك، إن لم يكن أكبر منه، لكنني نسيت ما أريد. وكنت قبلها بسنة وأشهر أطوف من مكان إلى مكان، أعرض خدماتي بثمن بخس، وجميل الأقدار دفعني لصرف النظر والعودة للركض في الحياة بعيداً عن سوق الأقلام والضمائر.
هذا الذي حدث لي هو عينه ما حدث للنحلة التي حاولت أن تصير هاتف عملة، فقلدته وفشلت، لأن العسل لا يُطلب بالنقود ولا يخرج لأن هناك من هو واقفٌ يريده، عسلُ النحلة مصيرها ووظيفتها وغايتها في هذه الحياة، النحلة التي لا تخرج العسل كالبقرة غير الحلوب، الكل من حولها يتساءل إن كانت بقرةً حقيقية. هاتف العملة أداة تحت الطلب، مركونة في زاوية الشارع، مهجورة معظم الوقت، نستخدمها عند الحاجة، لكنها لا تستحق ثناءً ولا تقديراً، بينما النحلة مخلوقٌ كريم، لا يقليق بها إلا الشكر والحب والامتنان، وانتظار إنتاجها للعسل مرة بعد مرة، وعالمنا سيكون بشعاً مُرّاً من غيرها.
١٤ جمادى الثاني ١٤٤٦