التدوينة الأولى

بسم الله، هذه هي التدوينة الافتتاحية. أراني داخلاً بصحبتها إلى هذا المكان، دليلاً لي واعتذاراً مني وتودداً إليكم. فما أخطط لكتابته في هذا الوعاء اللامحسوس ليس مما يبرعُ الناس فيه مطلقاً بمحض إرادتهم، أو يحصلون بفضله على ثناءٍ بلا ذم، كما يشتهي ذلك كلنا. ما أخطط لكتابته ليس شيئاً محجوراً عليه بعقالِ الحقيقة، بل لعله -بما ينمّيه في النفس من ذاتية وفردانية وحديث عاطفي- أقرب إلى معاداة الحقيقة من التحالف معها. ما سأكتبه هو نوع من الأدب، الدائر في فلك الثقافة.

يعني ذلك أن تكون هذه الكلمات شيئاً من التعرّي، فمعظمنا يعلم أن الكتابة الأدبية تقتضي التصريح بالآراء والعواطف والتطلعات فيصبح الكاتب بعد كل ذلك كالجسد العاري أمام غيره، من شاء ذكر جماله ومن شاء أشار إلى قبحه، وهم برغم كل ذلك العري المتمثل أمامهم، مختلفون في جماله وقبحه لحكمة الخالق في بقاء الاختلاف ما بقي ليلٌ ونهار. وبزيادة الكتابة، يزداد عري الذات وتكشفها للآخرين، ويكون ذلك العري في أقسى مراحله عندما تمتلئ الغرفة بالمحتشمين بملابسهم المبهرجة، الرامين إليك بأنظارهم شزراً على هذه الفعلة الشنيعة.

إذن ما الحاجة لهذه الكتابة الباهضة الثمن؟ ما الذي يدفع لها ذلك الدفع الشديد ويقود إليها محتّماً حدوثها بعد التعزّز والامتناع! إنها عدة أمور: أقواها تلك الرغبة العارمة بالتعبير عن النفس أو الذات، وهي متفاوتة في فِطَر الناس ويندر عدمها في واحدهم. ثانيها: محاولة التغيير والاضطرار للاكتفاء بالكتابة. ثالثها: رغبة الإنسان الدفينة ببقاء الذكرِ بعد زوال الأثر، والحديث مع من لم يخلق بعد.

ولست أريد تأخير ذلك، فيوم غدٍ الذي سنفعل فيه كل ما لم نعزم على فعله اليوم=لن يأتي أبداً. أخاف من مجيء اليوم الذي يحدودب فيه ظهري، وترتجف يدي، ويثقل لساني فلا أستطيع الإخبار والإبانة. والندمُ على القول أهون من الندم على السكوت حين وجوب القول. هكذا نظن نحن الشباب!

وبعد استجداء العون من الله أقول: لا يوجد طبيعة محددة لما سيكتب هنا. فربما كانت تأملاتٍ صريحة هادئة وسط ضجيج حياتنا، وربما تكون رسائل لأشخاص أو طوائف مغفلة الهوية، وتارةً حكايا مختلقة أو أقصوصات موجزة اللفظ كثيفة المعنى. بل ربما أفعل كدوستويفسكي الذي كتب في مقدمة يومياته واصفاً لها بأنها: “تقرير عما قرأت ورأيت وسمعت”. على أنني سألزم نفسي بانتقائية ما أنشر هنا لتكون هذه المدونة مرجعاً لأهم كتاباتي، وسأتأخر عن النشر الدوري إن لم أتمكن من كتابة ما يرتقي ليوضع هنا مهما كان السبب. ومن المحال أن تكون هذه الكتابات أتت بعد مظنة النضج أو اكتمال الآلة، بل هي بذاتها الطريق إلى ذلك. ولا غنى عن نصيحة.

العيد الكبير، ذو الحجة ١٤٤٠ هـ