ا
سعادات البدايات
مرةً حدث لي شيء فريد، اكتسى فيه القلب وشاحاً من السعادة في لحظة صفاء تزامنت مع “بداية”، ونبعت من سعادة تلك البداية سعادات كثيرة، تود معها لو أمكنك توزيع تلك السعادات على كل الوجوه التي رأيتها في حياتك. على الفقراء الذين ستثريهم هذه السعادة، على المرضى الذين سينامون بغبطة، على الجوعى الذين سيشبعون بها، على المحزونين الذين سيبتسمون لها ولو للحظة، على المخطئين الذين ستنسيهم نداماتهم، على المنتظرين فرصتهم الثانية فيقومون لها، على المغتربين فتؤنس وحشتهم، على الأمهات القلقات والزوجات المتعبات والبنات الصغيرات، على المطلقين والمطلقات وأبناءهم العالقين بينهم، على الفلسطينيين، على المكتئبين الواجمين الهائمين، على الأرامل والمظلومين والمساكين، على كل من دعا ولم يسمع حوله آمين، على الشقاء ذاته والحزن علّه علينا يلين، على الراحلين، على الذين أمنيتهم لو كان كل شيء وما كانوا، على القانطين. لا تتفاجأ، لم تدم تلك البداية، وما دامت سعاداتها علي، ولم أتمكن من الكتابة عنها حتى اللحظة، بعدما فارقتني منذ زمن بعيد، وتركتني أعود عن السخاء وأتمنى لو كانت كل تلك السعادات متوزعة على أياميّ ولياليّ، لا مجتمعة في لحظة واحدة.
سعادات النهايات
لماذا تبدو جميع النهايات سعيدة مهما كانت بائسة؟ لماذا نفرح بنهاية الأشياء ولو كانت تجارِب لا يمكن تكرارها أو تجاوزها؟ هل كانت كل أولئك سعادات خالصة بعدد النهايات أم أنها مشاعر الرضا فقط، الرضا بانتهاء كل ما له ابتداء، وتسليم واستسلام للنتيجة التي أصبحت حتمية مكتوبة مكشوفة لا يمكن تبديلها؟ أجل، كلها سعادات، وهل السعادة إلا الرضا! الفرح العارم المنقطع ليس إلا نشوة عارضة، وليست تهمّنا الآن. إن كل ما ينتهي نتيجته هي الرضا، ويقود إلى الرضا، أو يجدر به. السخط والاعتراض على نهاية من النهايات هو اعتراض على حقيقة من الحقائق من حيث هي حقيقة، ولا ينفي السعادة بالنهاية، كثيراً ما يعمينا السخط فلا نرى سعادة النهاية ولا نعيشها ولا نكترث بها. أريدك أن تفكر ملياً، هل هناك نهاية لم تسعد بها؟ لماذا؟ إن بهجة النهايات كثيراً ما تحدث، وتبقى في الذاكرة حيّة نهايةً من النهايات ولو نسينا سائر التجربة. كم يسعدنا رؤية نهاية سعينا، ووضع حد لكل الترقب، ويوماً ما، سنرى مساعينا كلها تنتهي، وسنرى نهاية النهايات، وربما سعادة السعادات.
سعادات الداخل
هل يمكن لشخص أن يبدو سعيداً من الخارج وهو على النقيض من ذلك؟ هل نسميه سعيدَ الخارج؟ إذن فالسعادة لا تعدو أن تكون صورة الإنسان عن نفسه في نفسه. قد يتبختر أمامك بماله وجاهه وصِلاته ورحلاته وإنجازاته وإمكاناته، ويبهرك بها، ولك الحق في انبهارك واختلاب تلك الكمالات والكماليات لانتباهك، ولكنه يقوم من مجلسك، ويؤوب إلى فراشه حزيناً، تعيساً بإنجازاته، معاقباً بها. لا تشك يوماً بأنه أسعد الناس طرّاً وأوفرهم حظاً وأضحكهم سنّاً، ولكن ما هذه السعادة التي ليس لصاحبها منها نصيب! ما هذه الحياة التي يسعى فيها الواحد لبهرجة أيامه أمام الناس والآخر ويعود حين يعود إلى غرفته بخفيّ حنين، لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع. لا شيء سيء في حياتك أبداً، لكنك لست بسعيد، لأنك حرصت على تنظيف وتحسين وترتيب الخارج، من أجلهم، ولم يهتم بداخلك أحد. اطمح واسعَ وغامر وشاغب وطالِب، ولكن سعادتك ستكون أول ما تصبح عليه وآخر ما تنام إليه، ومغامراتك وتجاربك ستشد منك وتفاخر بك أمام الآخر، بينما تخلو إليك سعادتك وتخلو إليها، فتفهم أن ما ذهبت به الريح لم يكن يستحق.
سعادات المكان أو سعادات الخارج
كنت أظن كورنيش الخبر مكاناً سعيداً، حتى رأيت كورنيش باتومي، ومضيق البسفور، وشواطئ المحيط الهادي، وتعلمت أن رؤية ماء البحر ونسيمه وأمواجه تبعث في نفسي سعادة. هذا التقاطع اللطيف بين اليابسة والماء يخلب اللب، أثبت الشاطئ بطول وتكرار وتنوع التجارب أنه مكان تستوطنه السعادة، أليس هذا ما يعنيه ذهاب المحزونين إليه هرباً مما هم فيه! وإن كان المكان سعيداً على الدوام، فهل يعني هذا أنه من الممكن أن نسافر إلى “السعادة” ونظفر بها في زاوية من زوايا الأرض وزقاق من الأزقة؟ كنت أرفض، ولا زلت، كل ما يربط السعادة بتمثلات مادية، وأفسّر كل سعادة أحدثها مكان في النفس إلى مساعدته في تحسين المزاج بلطف النسيم وشرحه للصدر برحابته وجمال مناظره، وتخلية البال من الهم لما يحدثه من غفلة عن النفس وما هي فيه ونسيان مشاكلها الملحّة. فلماذا لا أعترف ومكان كذلك المكان، يُحدث في النفس كل هذا، بأنه مكان سعيد! لماذا لا نريد أن نقبل أن هناك سعادة يمكن الذهاب إليها! ولو تأملت، لوجدت الأم شيئاً خارجاً عنك يسعدك اقترابك منه واتصالك، وربما قلت: النفس من الأم فليست بخارجة عنها تمام الخروج، فماذا عن الأطفال والطفولة، ألا تفرح لرؤية طفل يضحك؟ ألا يحدث ذلك لك سعادة؟ الأمثلة كثيرة على سعادات خارجة عنّا ترتبط بمكان أو حدث، فهل يمكننا الفوز بسعادات بعدد الأماكن السعيدة؟
ا
١١ محرم ١٤٤٥